محاور في المقام العراقي
السلام عليكم ..
هذا الموضوع هو في الأصل دراسة بحثية متسلسلة لمحاور تخص شؤؤن غناء وموسيقى المقام العراقي من اعداد قاريء المقام المعروف حسين الأعظمي كتبها في الاردن عام 2008 وهي قد تكون مفيده في الاطلاع على ما تحتويه الدراسه في بعض محاورها التي ساعرضها لكم هنا وأترك حرية النقاش حولها للأخوان الأعضاء لكي يستفيد الجميع من هذه الملاحظات وخصوصا الهواة (مثلي) لتوسيع معلوماتهم ...
وأشكركم على المتابعه مقدما ..
شعوبي
المحور الثاني من الدراسه
1 - شيئ عن المقام العراقي
2 - المقام العراقي بين الماضي والحاضر والمستقبل
3 - البناء الفني
وسنتناولها بالعرض كما يلي :
(1)
شيء عن المقام العراقي
يسود الاعتقاد في الاوساط الغناسيقية ان المقام العراقي عبارة عن مجموعة اجناس موسيقية وغنائية تتصل ببعضها البعض لتكوين قوانين وعناصرواصول حلت الغازها..! بيد ان المقام العراقي اضافة الى وجود هذه الاجناس هنا وهناك في ادائه ،يعتبر نمطا معينا من النظام الدقيق ذي الاصول الادائية الرصينة ،وهو عمل حسي تمتزج مكوناته جميعا للحصول على الوحدة المتكاملة في بنائه وقابل للتطوير .
من هذا المفهوم ، تتجسد الاداء والافكار الشعبية للاداء المقامي حول عناصره ومكوناته الادائية الاصولية بشكل ان يكون طاغيا .. اوسع بكثير لما ينظر الى المتطلبات الفنية والجمالية لعملية الاداء هذه .. في الوقت الذي يتفاعل المتلقي المتذوق بشكل عام مع المادة المقامية او مع الاعمال الفنية عموما على اساس انه تعبير حسي يخاطب احاسيسه دون الاهتمام بدقة المكونات وقواعدها واصولها .. لذلك فان المفعول الاستاتيكي لعملية اداء المقامات لا يتعرض للتقويض ابدا .. فقد كان القبانجي محقا عندما رأى في الاداء المقامي بان عنصر التطريب يحتل موقعا مهما في الاداء حيث قال ( ان قضية الاداء قضية جمالية )(1) …
ان القوة التعبيرية للفنان عموما لا تتأتى من معناها وحدها ، بل من طبيعة شكلها ايضا ، لأن المحتوى يحتاج الى شكل ، والشكل يحتاج الى محتوى …. اذن ما سبب هذا التباين في آراء وافكار المؤدين والناس غير المتخصصين والمتذوقين والمهتمين بشؤون الموسيقى والمقام العراقي ..!؟ وكيف نفسر هذه التناقضات ..!؟ … يا له من واقع عجيب !!
لذلك نرى ان الآراء والافكار والنعوت والتعاريف حول ماهية المقام العراقي قد تعددت ، من قبل نقاد ومتتبعين وكتاب ومتخصصين في هذا الموضوع . ولما كان المقام العراقي لونا غناسيقيا تراثيا فقد كانت معظم التعاريف والآراء تصــب في محور الخصوصية البغدادية كون انهم تحدثوا عن المقام الذي يؤدى في بغداد …ومع ذلك فقد اختلفت التعاريف هي الاخرى وفيما يلي بعض هذه التعاريف .
1- يقول الحاج هاشم محمد الرجب في كتابه ( المقام العراقي ) معرفا اياه بما يلي ( هو مجموعة انغام منسجمة مع بعضها له ابتداء يسمى بالتحرير او البدوة وانتهاء يسمى التسليم وما بين التحرير او البدوة والتسليم مجموعة من القطع والاوصال والجلسات والميانات والقرارات يرتلها البارع من المغنين دون الخروج على ذلك الانسجام المطبوع )(2).
2- يقول جلال الحنفي ( المقام العراقي هو نمط بين الغناء عرف في بغداد وبعض المدن الشمالية ومنها الموصل وكركوك على اختلاف يسير بين مغني هذه المدن في تعاطيه وفي بعض تسمياته وكيان هذا النمط من الغناء يظهر في تجمعات نغمية يتحقق تجمعها وتأليفها وفق قواعد واسس اصطلح عليها اصحاب هذه الصناعة بحيث تبدو سليمة المنحى وذات محتوى مستساغ واطار جامع )(3) .
3- اما المرحوم شعوبي ابراهيم فيقول ( هو مؤلفة غنائية لها قواعد محدودة ، لانتقال المغني من نغم الى آخر ليكون للارتجال الغنائي نصيب فيه )(4) .
4- وفي تعريف المرحوم عبد الوهاب بلال نجد ان ( المقامات العراقية .. هي لون من الوان الغناء الشعبي العربي في العراق التي ضيفت الحانها في العراق .. فغناها المطربون البغداديون .. والمقامات العراقية … هي عبارة عن مجموعة من الالحان الشعبية المنسجمة .. والتي تعددت انغامها وتنوعت الوانها مما اصبح لها الاثر الكبير في الغناء العراقي .. والذي له الصدارة على جميع انواع الغناء في البلاد .. وقد غدت اصولها وقواعدها ثابتة بما يسمى بـ( المقامات العراقية ) وهذه المقامات كانت ولا تزال تغنى في العراق(5) .
5- يشير الاديب الموسيقي اسعد محمد علي ، الى ان المقام العراقي ( هو فن كلاسيكي له ضوابطه ومقوماته )(6) .
6- يقول الباحث كمال لطيف سالم ( ان اهم ما يميز الغناء عندنا المقام العراقي الاصيل الذي لا يغنيه سوى اهل العراق وان كانت انغامه ذات صلة بالانغام الموجودة في الموسيقى العربية )(7) .
(2)
المقام العراقي بين الماضي والحاضر والمستقبل
يعتبر التجديد والابداع في اداء القبانجي لهذا المقام او ذاك ، بشكل عام ، درجة في سلم الانتقال من التقليدية الى التجديد ، حيث تتجلى السمات الابداعية التي اضافها القبانجي في ادائه للمقامات ، وبها كان القبانجي يتوقد نشاطا قوي الارادة ازاء كل الاراء المختلفة ، انني ارى كما يراه الآخرون فيما اعتقد بأنه لابد للمؤدي المقامي ان يعتمد في ادائه الغنائي على ثالوث زمني مهم ، بل غاية في الاهمية ، هو ان ينطلق من الماضي ويعيش الحاضر وينظر الى المستقبل بقناعة وايمان تامين ، خاصة وانه يؤدي مادة غناسيقية تراثية من الصعب تجاوزها .. فالانطلاق من الماضي يجعلنا نؤكد التسلسل التاريخي المترابط والمتداخل والمتماسك لاستمرار عملية التطور التي تحصل بشكل سليم حفاظا على اصالة المادة الغناسيقية المؤداة وارتباطها بجذورها . اما الحاضر المعاش فهو الذي من خلاله نربط بين الماضي والمستقبل ، وبالرغم من عدم وجود زمن حاضر فـــي حقيقة الامر ، لان الحاضر يصبح ماضيا في لحظته ، الا اننا نريد بذلك ربط ماضينا بمستقبلنا من خلال التجسيد الفعلي لهذا الزمن الذي اسميناه حاضرا ، والعمل فيه على تطبيق المستوى الثقافي الفطري والعقلي الذي يتمتع به المؤدي لغرض اضهار عملية التطور التي تحصل للمادة المؤداة من قبل المؤدي .. وطبيعي ان قيمة هذا التغير .. مرهونة بمستوى المؤدي الثقافي ، العفوي او الدراسي .. اما بالنسبة الى المستقبل فان النظر اليه بعين ثاقبة والتفكير به بتركيز ، يعد صلب حياتنا ، ومحور تطور ثقافتنا الغناسيقية(8 وتحسب وتقيم ثقافتنا على المستوى الفكري لمنظورنا المستقبلي ، فالماضي والحاضر يعملان في خدمة المستقبل ، خاصة وان الاهتمام بموضوع المستقبل اصبح اكثر جدية واكثر اهمية من أي وقت مضى بسبب سرعة الحياة التي نعيشها والتي تزيد سرعتها في كل لحظة نمضيها متزامنة مع تطور التكنلوجيا العصرية في سرعتها الهائلة التي لا يتصورها العقل ولا تستطيع تصوراتنا وتوقعاتنا ان تصل الى ما قد يحدث او يكون في حياتنا التي نعيشها او لا نعيشها مستقبلاً .
تنطبق كلماتي هذه على نحو ما ، على المؤدي الرائع ناظم الغزالي الذي استطاع بدقة ادائه وحسه المرهف وعقله النيّر ان يمتلك اداءه ويسير به نحو الآفاق المستقبلية … فقد كانت الخمسينيات والستينيات التي لم يعش الغزالي حتى نهايتها انعطافة اخرى في مسيرة الغناء البغدادي والعراقي على وجه العموم .. برزت فيها الاغنية العراقية الملحنة بشكل مثير ، اغنية تمتلك خصوصية عراقية مستقاة من الواننا الغنائية تحمل نظرة جديدة واعية للحياة ، ساعدت على تطورها وبلورتها انماط جديدة من العلاقات الثقافية والاجتماعية ، ادت بدورها الى ظهور العديد من المؤدين الجيدين للاغنية العراقية والبغدادية امثال .. سليمة مراد .. مائدة نزهت(9) .. زهور حسين(10) .. عفيفة اسكندر(11) .. ناظم الغزالي .. يوسف عمر .. عباس جميل .. رضا علي(12) ... الخ . مما ادى في النهاية الى بلورة الفن الواقعي الجديد .
(3)
البناء الفني
يقوم البناء الفني لاداء المقامات العراقية على مفهوم اساسي هو الديناميكية في الاداء ، ونعني بذلك الحركة الفنية المستمرة المتصلة في التغير والتنوع بين السلالم والاجناس الموسيقية والغنائية فيما سمي بالقطع والاوصال والاستمرار في اداء المقام كوحدة متكاملة ..
والنقاد والمتتبعون لشؤون المقام يتحدثون عن هذا العنصر الديناميكي لعملية البناء اللحني للاداء المقامي بتناقض ، حيث انقسموا الى فريقين ، كل فربق يريد ان يؤكد ، اما ديناميكية الاصول الادائية التقليدية او ديناميكية البناء الجديد في اختزال تلك الاصول او تهذيبها او الاضافة اليها واحلال الجديد محل بعضها .. وهذه القوى تتجلى بوضوح عندما نستمع الى حفلات او تسجيلات المقامات التي اداها المطربون خلال القرن العشرين … لهذا يجدر بنا .. ان ننظر الى هذه القضية بعين العلم والفن والمعاصرة … بدلاً من التعصب الى احد الفريقين .. ويمكن لنا ان ننطلق من نقطة معينة اراها مهمة جداً، هي دراسة وتحليل هذا التراث ومن ثم تأكيد وتوضيح الاصح من كلا الفريقين ومن ثم معرفة ماهية التراث والموروث الموسيقي بمعناه العلمي الاكاديمي ليتسنى لنا بعدئذ تقديم طرف على آخر…
الاداء المقامي عموماً ينجذب نحو هذين الاسلوبين او الفريقين كونه تراثاً وموروثاً مدنياً حضارياً… وفق اختيار حّر يبدو وكانه متروك لاهواء المؤدي وميوله ونشأته ، ويستطيع السامع المتذوق تحديد اسلوب كل من الفريقين فيما اذا كان تقليدياً او تجديدياً بعد سماعه بضعة جمل من غناء أي مغنٍ للمقام …
في صدد الدراسة الاكاديمية للتراث والمروث الغناسيقي يقول د. طارق حسون فريد (أنهما المادة الصوتية والنسيج الموسيقي المجسد لمجموع الارث الحضاري الموسيقي الذي يبتكر ويؤدى ويعاد اداؤه في هذا العصر(13) كما في العصور السابقة) ثم يسترسل ويقول : ( لا قيمة للتراث من دون معاصرة ولا قيمة للمعاصرة من دون جذر يمتد بالامة الى اعماق تجاربها الماضية في العطاء والابداع)(14)..
اذن فدراسات التراث والموروث بشكل عام تسعى في غايتها الى الكشف عن الانجازات والابداعات التي حققها الاسلاف ، أي اننا نبحث عن ثوابت المادة التراثية ومن ثم ما يطرأ عليها عبر المراحل التاريخية للغناء والموسيقى وتطورهما …
الهوامش :
----------
(1) قيلت عنه من قبل اصدقائه ، اضافة الى ان منحى ادائه يوصي بهذا الاتجاه .
(2) الرجب ، الحاج هاشم محمد ، المقام العراقي ، ط2 ، بغداد ، 1983 ، ص64 .
(3) الحنفي ، جلال ، لمحات عن المقام العراقي ، منشورات المركز الدولي لدراسات الموسيقى التقليدية ، بغداد في 20 / 3 / 1983، ص3 .
(4) ابراهيم ، شعوبي ، دليل الانغام لطلاب المقام ، وزارة الثقافة والاعلام ، ط 1985 ، ص7 .
(5) بلال ، عبد الوهاب ، النغم المبتكر في الوسيقى العراقية والعربية ، مط اسعد ، بغداد 1969 ، ص4 .
(6) محمد علي ، اسعد ، مدخل الى الموسيقى العراقية ، وزارة الاعلام ، سلسلة الكتب الحديثة ، ط1 ، بغداد ، 1974 ، ص21 .
(7) سالم ، كمال لطيف ، اعلام الغناء العراقي ورواده ، ط1 ، بغداد ، 1985 ، ص5 .
(8 الغناسيقية – عن الاستاذ د. طارق حسون فريد ، وهي دمج كلمتي الغناء والموسيقى في كلمة واحدة للسهولة والاختصار .
(9) مائدة نزهت – ولدت في بغداد 1932 بدأت حياتها الفنية بداية العقد الخمسيني في الاذاعة العراقية . تعتبر افضل مؤدية عراقية في القرن العشرين من الناحية الفنية لها اغان كثيرة ، غنت الموال ، واستفادت كثيراً من مطرب المقام العراقي حسين الاعظمي في تعليمها للمقامات التي ادتها بأتقان حيث عملا معاً في فرقة التراث الموسيقي العراقي اكثر من عشر سنوات التي اسسها الفنان الراحل منير بشير اوائل السبعينيات وشاركا من خلالها في العديد من المهرجانات في العالم حتى النصف الثاني من العقد الثمانيني حيث اعتزلت الغناء وتفرغت للعبادة وحجت بيت الله الحرام .
(10) زهور حسين – انظر هامش رقم (13) من الفصل الاول – اضافة الى ذلك فقد نشر الباحث الغنائي كمال لطيف موضوعاً في جريدة القادسية بتاريخ 6/10/1991 في العدد 3724 يقول (الفنان رضا علي يتحدث عن زهور حسين – الفنان في وقتنا كان لايركز على فنه وصوته واعني لم تكن هناك نظريات او نقاد يرشدون الفنان بل كان الفنان يجتهد وحسب ثقافته … فكانت المسألة عند بعض الفنانيين عفوية فزهور حسين كانت مطربة شعبية تأدي الاغاني الشائعة وعندما بدأت تغني من الحان عباس جميل والحاني صارت تحسب حساب حفظ اللكلمات واللحن ومع ذلك جاءت الاغاني بفطرتها أي بصوتها وبحتها وامكاناتها لذا فأن سماعها في أي وقت يبعث الطرب في النفس) .
(11) عفيفة اسكندر – من كبار المطربات العراقيات والعربيات ولدت في الموصل وعاشت في بغداد لها صوت جميل جدا ولها اغان كثيرة في الاذاعة والتلفزيون ومشاركات عديدة داخل العراق وخارجه اعتزلت الغناء في العقد الثمانيني .
(12) رضا علي – مطرب عراقي كبير اثر في الوسط الغنائي البغدادي كثيراً غنى الكثير من الاغاني ولحن الكثير منها له ولخيره من المطربات والمطربين من العراقيين والعرب .
(13) العصر – Age – حقبة من الزمن محددة بتواريخ معينة او بصفات خاصة .
(14) د. فريد ، طارق حسون ، ملزمة تراث الموسيقى ، كلية الفنون الجميلة ، قسم الموسيقى ، ص24 .
المحور الثالث :
-------------
يتضمن هذا المحور ما يلي :
1 - التراث والموروث
2 - الثوابت والمتغيرات
3 - التعريف بالمقام العراقي
(1)
التراث والموروث
إشارة الى ما يقصد بالتراث الموسيقي وما يقصد بالموروث الموسيقي في الدراسات الاكاديمية رغم انهما يصبـَّان في غاية واحدة هي الإرث الحضاري ، بيد أنهما يختلفان بعض الشيء من حيث تفصيلات المعنى المقصود ، حيث يقول د.فريد (يقصد بالتراث الموسيقي ، كل ما حفظ لنا حول الارث الحضاري الموسيقي مدوَّناً). وبالطبع يشمل هذا القول الإرث عموماً.. وإن ما يقصد بالموروث الموسيقي ( كل ما توارثناه من الآباء والاجداد وتعلمناه من خلال الملاحظة والمشاهدة والسماع والاستماع ، فهو الثقافة المنقولة إلينا شفوياً ).. إن فنون الموروث الموسيقي ذات طابع جماعي من حيث الابتكار والاداء والتلقي عادة(15) .. وحول نفس الموضوع يحدد د. فريد ثلاث مستويات للتراث والموروث الموسيقي من حيث القيمة الحضارية…
1-.المستوى الاول .. خاص بالاجناس العرقية والجماعات والقبائل والاقوام التي عاشت بمعزل عن التأثير الحضاري الانساني ولم تؤدِ فيه دوراً بارزاً يذكر ..
2. المستوى الثاني .. يشمل تراث وموروث الشعوب والامم التي ساهمت بدور رائد في الحياة الثقافية والفنية والعلمية ومختلف جوانب الحضارة الاخرى ضمن المسيرة الانسانية ، وكانت حضارتها تمثل إحدى ذروات تلك المسيرة الانسانية الطويلة في عصر من العصور المتعاقبة ..
3- المستوى الثالث .. وهو تراث وموروث الشعوب والامم التي لم ينقطع بعد إتصالها بنتاج مسيرتها الموسيقية الفنية السابقة في القرون العشرة الاخيرة ، أو لنقل منذ عصر النهضة (الرينيسانس)(16) تحديداً … فتراث هذه الشعوب الاوروبية الوثيق الارتباط بأنجازات مسيرة الفن الموسيقي المنهجي العالمي مازال خصباً وعطاؤه المتجدد مستمراً من خلال إبداعات العديد من المؤلفين الموسيقين الرواد ..
(2)
الثوابت والمتغيرات
ما يخص ثوابت ومتغيرات المادة التراثية ، فإنها عملية تسعى الى توضيح إتجاهين مهمـَّيـْن في شكل ومضمون التراث والموروث الغناسيقي وتطوره ، وهذين الاتجاهين أحدهما محافظ تقليدي يرفض التغير أو التنوع أو الاضافة والتجديد ، والآخر يرتبط بالابداع والخلق الفني والتجديد والابتكار ، لذا فإن الموضوع بشكل عام يرتبط بالحركة التطورية والتاريخية للتراث وكذلك التطور الفكري للفن الغناسيقي التراثي للمجتمعات على وجه العموم … ولما كان الامر كذلك فإنه يمكن تحديد أو تأشير بعض النقاط التي تخص الموضوع :
1. إن المتغيرات التي تطرأ على ثوابت المادة التراثية ، تكون لدى الفرد أوضح وأسرع حدوثاً من المتغيرات الجماعية …
2. تكون المتغيرات في المادة التراثية الدنيوية أوسع وأسرع بكثير مما تحدث من متغيرات في المادة التراثية الدينية …
3. تزداد نسبة المتغيرات في المجتمع حسب المستوى الثقافي ، فكلما تقدم المجتمع ثقافياً ازدادت نسبة المتغيرات…
إن هاجس الشعوب الحية أن تتقدم الى الامام ، وتسعى الى الابداع والتطور والابتكار…
(3)
التعريف بالمقام العـراقي
لنأخذ على سبيل المثال كتاب الحاج هاشم الرجب ( المقام العراقي ) في طبعته الاولى 1961 وطبعته الثانية عام 1983 وهو في صدد تعريف المقام العراقي حيث يقول ( هو مجموعة أنغام منسجمة مع بعضها ، لها ابتداء يسمى التحرير ، وانتهاء يسمى التسليم ، وما بين التحرير والتسليم مجموعة من الاوصال والميانات والقرارات يرتلها البارع من المغنين دون الخروج على ذلك الانسجام المطبوع) 26*.
ينبغي الاشارة إلى ان التعريف يرتبط بطبيعة الكتاب المتعلقة بالدراسة الموزيكولوجية 27* للمقام العراقي ، حيث يهتم المؤلف بشرح اشكال forms المقامات العراقية أكثر من اهتمامه بالمضامين التعبيرية التي لم يتحدث عنها الكتاب في الاعم الاغلب او لم يتحدث عنها أبداً ..! وعليه فإن مفهوم هذا التعريف يتعلق بالمعمار الهيــــكلي للبناء المقامي التقليدي ، ولا يشمل ماهية المقام العراقي كشكل ومضمون ، فهو لايبعث على الرضا نسبياً .. اذ لا يوضح هذا التعريف ، البناء الحقيقي لغناء المقامات بصورة تفي بالغرض للتعبير عن مضامين البناء الغناسيقي المقامي شكلاً ومضموناً ...
أما تعريف المرحوم شعوبي ابراهيم خليل الوارد في كتابه (دليل الانغام لطلاب المقام) الذي ينص على (هو مؤلفة غنائية له قواعد محدودة لإنتقال المغني من نغم إلى آخر ويكون للارتجال الغنائي نصيب فيه)28 * فهذا التعريف شبيه بالذات لما يخطر في ذهنك من المفهوم الاعتيادي لمعنى أي لون غناسيقي تراثي تود تعريفه ، فهو تعريف عام لا يدلنا على خصوصية هذا التراث الغناسيقي بصورة مباشرة .. أما التعريف الذي ورد على لسان جلال الحنفي (المقام العراقي هو نمط من الغناء عرف في بغداد والمحافظات الشمالية ومنها الموصل وكركوك على اختلاف يسير بين مغني هذه المدن في تعاطيه وفي بعض تسمياته ، وكيان هذا النمط من الغناء في تجمعات نغمية يتحقق تجمعها وتأليفها وفق قواعد واسس اصطلح عليها اصحاب هذه الصناعة بحيث تبدو سليمة المنحى وذات محتوى مستساغ واطار جامع )29 * إن هذا التعريف يبدو لنا غير واضح المضمون ومربكاً بعض الشيء فضلاً عن كونه تعريفاً مطولاً دون كثافة ..! إن بغداد ليست جذوراً جغرافية للمقامات ، وإنما تأثرت بالبلدان القريبة من غرب وأواسط آسيا ، ويعود السبب في تأثر بغداد بصورة عميقة دون غيرها من المحافظات الاخرى القريبة من بغداد ، هو لكون بغداد ، العاصمة ، وبقيت عاصمة منذ تأسيسها والى يومنا هذا حتى في ظروف الانحطاط التي مرَّ بها العراق ، في حين ان محافظات شمال العراق ، الموصل وكركوك واربيل والسليمانية ودهوك تمثل الجذور الجغرافية لهذه الممارسات الغنائية المقامية الموجودة كلما إتجهنا نحو الغرب الآسيوي والى أواسط آسيا ..
على كل حال .. إن هناك من الحديث ما يكثر ويطول ، وإن هناك تعاريف كثيرة لجمهرة من المتخصصين في الشأن المقامي ، يتضح من خلالها ، أنه لا يمكن الاعتماد على تعريف واحد فقط ليعطي مفهوماً كاملاً عن المعنى الإجمالي للمقام العراقي أو معنى كاملاً لشكله ومضمونه .. فكل تعريف يعبِّر عن جزء معين لمعنى المقام العراقي ومن مجموع هذه التعاريف ربما يمكن لنا أن نصل إلى المفهوم الواضح لماهية المقام العراقي ومن ثم نصل إلى نص تعريفي شامل مقنع .. فغناء المقام العراقي وموسيقاه ، كيان كبير وواسع ، له جذور تاريخية عريقة وتراكمات حضارية وتجارب تعبيرية وشكلية متعددة لا يمكن تحديدها بسهولة ..
أصبح الآن واضحاً بجلاء ، وعملاً مهمَّاً للغاية ، أن التعاريف تلعب دوراً رئيسياً في سبيل كشف المفهوم المقامي وكشف فلسفة الغناء المقامي ، فالتعاريف تساعد على إزالة الغموض والابهام عن معرفة مكنونات هذا التراث الغناسيقي التراثي ، فهي تكشف المنطق الداخلي للعلاقات اللحنية القائمة بين المواد الاولية المكونة للمقامات ، باعتبارها مواداً أساسية ثابتة الوجود في كل مقام على حدة ، وبالتالي ومن خلال هذه المكونات ، يصبح المقام العراقي فورماً غناسيقياً تراثياً يتميَّز بشكل ومضمون خاص عن باقي الاقاليم الاخرى التي تتشابه في مظهرها العام بأداءات المقامات العراقية ...
وفي كتاباتي الكثيرة عن المقام العراقي ، أوردت عدة تعاريف ، جاءت متنوعة حسب متطلبات موضوع الكتابة ، فمنها ما هو تعريف وظيفي أو إجتماعي أو علمي أو فني ، وفيما يأتي بعض من هذه التعاريف التي أوردتها (يعتبر المقام العراقي نمطاً معيناً من النظام الدقيق ذي الاصول الادائية الرصينة ، وهو عمل حسِّي تمتزج مكوناته جميعاً للحصول على الوحدة المتكاملة في بنائه وهو قابل للتطوير) 30*
وهذا تعريف آخر (هو مؤلف غناسيقي تراثي عراقي خاص يسرد في صور شاملة متعددة الجوانب من الاشكال والمضامين الادائية .. حياة العراق بكل تاريخه وحضارته وثقافته وظواهره وهو يعكس هوية ابنائه وشخصيتهم ، و يوضح ايضاً تطور حياة هذا البلد العريق في تفاعله المتبادل بدائرة الحياة الطويلة المعقدة والممتدة لآلاف السنين من التاريخ) 31* ويمكن ان نقـــــول ايضاً.. (هومجموعة من الانغام الموسيقية ذات صيغ متقاربة غالباً ، تختلف بعض الاحيان) .. ويمكننا ايضا ان نعرِّف المقام العراقي الآن بهذه الكلمات (هو فورم فني غناسيقي كلاسيكي تاريخي ، ذو شكل ومضمون خاص بالعراق تمييزاً عن باقي الاقاليم في غرب وأواسط آسيا والوطن العربي ، عمق كيانه عراقي عربي وتأثيراته آسيوية)... وعلى هذا الاساس لا يمكننا الاكتفاء بتعريف واحد ، ولا نستطيع التحديد ..
ومن ناحية اخرى تعني شكله ومكوناته وعناصره , فإنه يتكون بصورة عامة من خمسة عناصر اساسية يعتمد عليها كل مقام على حده في بنائه اللحني والموسيقي وهذه العناصر هي:
1- التحـــرير – يقصد بهذه المفردة ، البداية او الاستهلال لغناء احد المقامات ، ويأتي هذا الاستهلال غالباً بكلمات او الفاظ خارجة عن النص الشعري المغنى مثل امان .. امان.. او ويلاه .. ويلاه .. الخ ، ويعتبر التحرير نموذجاً لحنياً متكاملاً لروحية وتعابير وثيمة 32* المقام المغنى .
2- القـِطَعْ والاوصال – ويقصد بهاتين المفردتين اصطلاحا , بالتنوع السلَّمي أي التحولات السلَّمية او الاجناس الموسيقية ضمن علاقات لحنية متماسكة والعودة دائما الى سلَّم المقام المغنى (السلَّم الاساس _ الميلودي) وهذه التحولات أو القطع ذات أشكال ثابتة ومحدده في مساراتها اللحنية في غالب الاحيان.
3- الجلـــسة – وهي النزول الى الدرجات الموسيقية المنخفضة بإسلوب القرار ، ولكن بمسار لحني محدد ذي شكل معين يكاد ان يكون ثابتاً , أي ليس أي نزول او أي قرار يعني الجلسة بالضرورة ، حيث تشير هذه الجلسة للموسيقيين او توحي للمستمعين ايضا على انه ستأتي طبقات عالية من الغناء أي الجواب او اكثر من الجواب .. مثل - فعل ورد الفعل – أي لابد من حدوث هذه الجوابات التي تأتي ايضا بمسارات لحنية محددة وبشكل معين ليس أي جواب ايضا .. وتسمى هذه الجوابات بـ - الميانة – وهي العنصر الرابع.
4- الميـــانة – ويأتي غناؤها بطبقة صوتية عالية بعد الجلسة مباشرة ذات شكل ومسار لحني معين ثابت ، على ان هذه الجوابات او هذه الميانات ليس من الضروري دائما تسبقها جلسة من حيث هي عنصر من عناصر شكل المقام العراقي ، فقد تأتي صيحات غنائية عالية لها مقومات الميانة واهم هذه المقومات ثبات هذه الصيحة في المقام المغنى دون الحاجة الى ان تسبقها جلسة ، في حين ان النزول الى الجلسة في العنصر الثالث يجب ان تتبعها ميانة في كل الاحوال ، اضافة الى ان هناك صيحات عالية من الغناء حرة يستسيغها المغني حسب مزاجه الآني لا علاقة لها بموضوع الميانة خلال غنائه للمقام لانها لا تمتلك مقومات الميانة .
5- التســليم – وهو نهاية المقام ويأتي غالبا بألفاظ او كلمات غنائية خارج النص الشعري ، شــــــأنه في ذلك شأن ما يحدث في العنصر الاول ( التحرير ) 33..
ومن هذه الناحية يختلف المقام العراقي عن الاغنية المقصودة أو التي نسميها الاغنية الحديثة التي تعكس ثقافة الفرد في المجتمع .. لأنها تجارب محدودة لاتتعدى حدودها الفردية ، وفي حيِّز زمني محدد .. سواء أكان شاعراً للاغنية أو ملحناً أم مؤدياً لها.. فكلهم معلومون في المجتمع .. في حين أن التراث انعكاس لثقافة المجتمع وعلى مدى التاريخ وهو ما تعوِّل عليه كل الدراسات الاكاديمية لمعرفة قيمة هذا البلد أو ذاك .. فمهما كانت قيمة الفرد الثقافية فإنها تبقى ضمن حدودها التأثيرية ويبقى المجتمع صاحب كلمة الحسم في أيه دراسة بحثية أكاديمية .
ليس في الحياة ، أو في أي فن من الفنون .. جانب يستطيع أن يمتلك شمولية التعبير عن كوامن المشاعر الانسانية بهذا الشكل اللانهائي ، بمثل الشمول الذي يعكسه الغناء والموسيقى – فالغناسيقى- التراثية لها الامكانية الواسعة بالتصوير المتَّسع عن كوامن الانسانية للجماعات والافراد ، وهو ما يطلق عليه - عبقرية الشعوب – فهي تسمح بالمزج بين مختلف انواع التعبير الروحي والمضامين السامية ووسائل التصوير المتنوعة من جهة ، وبين تصوير الجوانب العادية للحياة من جانب آخر.
وعلى هذا الاساس فالغناسيقى التراثية تعتبر أكثر أنواع الفنون التي تبرز حياة الانسان في ظروفه المحددة كانعكاس لتصوير حقبته الزمنية التي يعيش فيها .. والغناسيقى التراثية تختلف تبعاً لاختلاف بيئاتها وموضوعاتها واشكالها ومضامينها .. فهناك الغناسيقى المدنية والريفية والبدوية والصحراوية والجبلية والسهلية وغيرها ..34 *
الهوامش
--------
26* تعريف الرجب ..(الرجب , الحاج هاشم محمد , المقام العراقي , ط اولى 1961وط ثانية 1983 , مط الارشاد , بغداد , ص64..)
27* الموزيكولوجية : ونعني بها علم الموسيقى ، علم متعدد الاختصاصات يتصدى لدراسة الظاهرة الموسيقية عبر تاريخها الطويل ، من خلال المكتوبة والمسموعة ، معتمدافي ذلك اساسا ، الصرامة المنهجية والتقنيات الدقيقة المستعملة في العلوم الانسانية والعلوم الصحيحة ، فهو يختص بالبحوث والتفاصيل الفنية لدراسة الموسيقى ونظرياتها وتاريخها وتذوقها ، بالدرس والتحليل وعناصر اللغة الموسيقية وتطوراتها عبر العصور والبلدان والمناطق ، ويقوم بدور هام في البحث واكتشاف المخطوطات القديمة والمؤلفات الضائعة او المنسية وتدوينها وتسجيلها ، وتفسير الاعمال الموسيقية والتنقيب عن الاعمال التي حدثت في الماذي وتقييمها .. (قطاط ، محمود ، مجلة المجمع العربي الموسيقي ، جامعة الدول العربية ، نصف سنوية ، الموسيقى في سياقاتها الاجتماعية والحضارية ، المجلد الخامس ، العدد الاول ، شتاء وربيع 2006 ، ص1
28* تعريف شعوبي ..(خليل , شعوبي ابراهيم , دليل الانغام لطلاب المقام , منشورات المركز الدولي لدراسات الموسيقى التقليدية , ط اولى , بغداد 1982 , ص7)
29* تعريف الحنفي ..(الحنفي , الشيخ جلال ,لمحات عن المقام العراقي , منشورات المركز الدولي لدراسات الموسيقى التقليدية , بغداد , 1983, ص3)
30* تعريف الاعظمي .. (الاعظمي , حسين اسماعيل , المقام العراقي الى اين ؟ , المؤسسة العربية للدراسات والنشر , ط اولى , بيروت , 2001 , ص67 )
31* تعريف حسين الاعظمي – المؤلف - في محاضرة القاها في المركز الثقافي الفرنسي ببغداد يوم 23\5\2002..
32* الثيمة ..
33* الاعظمي , حسين اسماعيل , المقام العراقي باصوات النساء , المؤسسة العربية للدراسات والنشر , طبعة اولى , بيروت , 2005, ص44و45
34* انظر الكتاب القيم , علم الفولكلور, لمحمد الجوهري .. الجزء الاول ,طبعة 1988 عن دار المعرفة في الاسكندرية
(15) نفس المصدر السابق .
(16) الرينيسانس – اتجاه فكري ساد في اوربا كحركة احياء التراث ، ودامت هذه الحركة حوالي قرنين من 1400 الى 1600م وسط وغرب اوربا ، أي حتى عصر النهضة .